عدد المساهمات : 1282 نقاط : 2244 السٌّمعَة : 8 تاريخ الميلاد : 03/03/1994 تاريخ التسجيل : 30/07/2012 العمر : 30
موضوع: السبب الروحاني لقيام الشريعة الثلاثاء يناير 08, 2013 5:30 pm
السبب الروحاني لقيام الشريعة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، حمدَ خاضعٍ لجلاله، مُعترف لله بنعمِه وإفضاله، ومعترفٍ لربه بِزَلاتِه وأخطائه وأخطالِه، يوقن أن لا ألذَّ في الحياة مِن الوجهةِ إلى المولى تبارك وتعالى ونَيلِ قبولِه وإقبالِه..
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا يترقَّى مراقيَ العُلى على الحقيقة إلا مَن خضع لجلاله، وشهِد عظيمَ عُلوِّه وكمالِه.
ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبدُ الله ورسوله، وخاتم أنبيائه، وختمُ إرساله، تطربُ الأرواح إذا بدا بادي جمالِه، لِما خصَّه به الإله من عظيم نواله.
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على عبدِك المصطفى سيدنا محمد وعلى أصحابه وآله، وعلى مَن آمن به واتبعَه وأحبَّه وسار على مِنوالِه، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد، فإننا في ساعةِ تلقٍّ لفائض فضلِ الله، وتوجُّهٍ بالقلوب للمولى تعالى في عُلاه. نستبين ونستوضح في هذا المجلس معانٍ من هديِ سيدنا رسول الله، الذي أمره الله جل جلاله أن يخاطبنا بقوله: ( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ )، وأعلى السعادة لكل مخلوق أن يحبَّه مولاه تعالى في علاه، وقد أخبر عن نتيجةِ متابعةِ حبيبِه أنه يحبُّ من اتبعَه واقتفاه، وإن المُتَّبِع للمصطفى صلى الله عليه وسلم والمتشوِّف لهديِه الكريم تنبعثُ من قلبه معاني يدرك بها أسرارَ العبادات، فيعبُر مِن صُورِها الظاهرات إلى حقائقها العظيمات الباطنات، ويعتلي بذلك مراقي ودرجات في معانٍ عظيمات واسعات، ومن اقتفى ورضي من المسلمين بظواهر العبادة، فقد حرم نفسَه حقائق عظمى من كنوز السعادة، وقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن سيد السادة أنه صلى الله عليه وسلم قال: ( إن اللهَ لا ينظر إلى صُورِكم ولا إلى أجسادكم ولكن ينظرُ إلى قلوبكم )، فعسى ينظر في قلوبنا في مجلسنا هذا ما يحبه تبارك وتعالى، وما به يرضى عنا.
أحضِر أيها المؤمن قلبَك، أحضِر أيها المؤمن وأيَّتُها المؤمنَة قلبك، فهو محلُّ نظرِ ربك، وساعة يحضر فيها القلب تجد مِن فيوضات ومِنَح الرب ما لا تجده في ساعات وأيام وليالٍ كثيرة، وإن حضور القلب هو الروح للعبادات كلها، ولقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يعبثُ بيده بلحيته وهو يصلي فقال: ( لو خشع قلبُ هذا لسكنَت جوارحُه ). ودخل رجل وهو جالس بحلقة مع أصحابه فصلى من دون إحسان الصلاة، فجاء ليجلس مع النبي فقال له: ( صلِّ فإنك لم تُصل ) فصلى ثانية، فقال له: ( صلِّ فإنك لم تصل )، وثالثة فقال: علِّمني يا رسولَ الله، فعلَّمه القيام والتكبير والقراءة والركوع والطمأنينة والرفع والطمأنينة والسجود والطمأنينة والجلوس والطمأنينة.
وكان سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: ( كونوا بقبولِ العمل أهم منكم من العمل، فإنه لا يقلُّ عملٌ مع قبول ).
وقد كان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكرِّر آيةً في الصلاة يردِّدها حتى يُغمى عليه، ويُحمل إلى البيت، فقد يبقى أياماً يُعاد مِن آثار آيةٍ من آيات الله تعالى قرأها في الصلاة، ( إن عذاب ربك لواقِع ما له من دافع )
وقد كان يغلبُ على الصديق رضي الله تعالى عنه البكاءُ عند المرور بالآيات، مع ما هو غالبٌ على قلبه من التعلُّق القويِّ برسول الله والشوق إليه، وهو الذي عرف من أسرار هديه واتباعه ما تبوَّأ به أعلى المراتب في الخِلافة. ولمَّا خُوطب بتغييرِ الإمارة من سيدنا أسامة بن زيد لآخَر لصِغَر سنِّه ولأن الحال صار شديداً بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ( كيف أنا أحلُّ لواءً عقدَه رسولُ الله بيده، لا والله.. أولُ عملٍ أبدأ به إنفاذُ جيش أسامة، بعد ما سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: أنفِذوا جيشَ أسامة )، واستأذنَ أسامةُ أن يتخلَّف في المدينة لِما شُغل به من الخلافة، وأن يبقى معه سيدنا عمر بن الخطاب ليكون عوناً له.
ثم خرج يودع أسامةَ وهو يمشي على قدميه، فقال له أسامة: تََركب أو أنزِل، قال: ( لا، وما عليَّ أن أغبِّر قدميَّ في سبيل الله، وقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لن تمسَّ النارُ قدماً اغبرَّت في سبيل الله )، وكان سيدنا عمر بن الخطاب إذا لقي أسامة بن زيد حتى أيام خلافته يقول: ( السلام عليك يا أميري )، فيقول له: ( أنت أمير المؤمنين )، فيقول: ( ولكن أنت توفي رسول الله واللواء معقود بالإمارة لكَ علَي ).
وذكرت سيدتنا أسماء بنت عميس رضي الله عنها، وكان قد تزوجها سيدنا أبوبكر الصديق، قالت ( دخل علي أيام خلافته ليلة، فقام فجلس فوضع رأسه بين رجليه وأخذ يقول: واشوقاه إلى رسول الله، واشوقاه إلى رسول الله، واشوقاه إلى رسول الله، وهو يبكي، قالت: حتى رثيته فقمتُ إليه أخفِّف عنه وأقول له: يا خليفةَ رسول الله، لقد صاحبتَه ورافقتَه وجاهدتَ معه، ورضيَ عنك ومات وهو عنك راضٍ، وستلقاه بعد هذا، وستأوي إليه في البرزخ والآخرة.
وإن كان ليذكر رسولَ الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم وهو يخطب على المنبر فإذا قال: كنت معه في يوم كذا، انتحب باكياً حتى يبكي ببكائه مَن في المسجد.
ولو تذكَّرتَ أيها المؤمن يومَ حنَّ الجذع لعلِمتَ أن عليكَ واجباً بروحِك وقلبِك نحو هذا المُرسل إليك مِن رب العرش.. إنه يومٌ مشهود، كان عجباً من آيات الله تبارك وتعالى، ولقد كاد مِن شدَّةِ حنينِه أن ينشق، وليس بينه وبين رسول الله إلا أذرع معدودة، لكن لم يقدر على فراق القُرب من تلك الذات الشريفة، ووضعِ يدِه عليه، وخرج النبي من منبره إلى عند الجذع، وأخذ يكلم الجذع، وأكبَّ كلُّ واحد من الصحابة رأسه على رجله يبكون، وسمعوا صوت الجذع يخفُّ شيئاً فشيئاً فشبَّهوه بالصبي تُسكِّته أمه حتى يسكت، ثم قال: ( لو لم أفعل به هكذا لبقي يحنُّ إلى يوم القيامة )، وقال: ( إني خيَّرتُه بين أن يعود شجرة مثمرةً في الدنيا، أو أن يكون نخلة في الجنة فاختار أن يكون في الجنة ).
كان سيدنا الحسن البصري إذا ذكر حديث الجذع قال: ( أيها الناس، خشبة تحنُّ إلى رسول الله، ألَسنا أولى بالحنين إليه!؟ ).
ولو حنَّ قلبُك بالصدق كحنينِ الجذع لم ينسَك رسولُ الله ولم يُعرِض عنك، وكما نزل للجذع من على مِنبره فستنزلُ روحُه مِن مرتبتِها الرفيعةِ لك، وإن كنتَ في أي مكان في الأرض، لكن الشأن في صدقِ التعلق، في وجودِ حقيقةِ الشوق، في حنين الفؤاد والقلب، إنها ميزتُكم معشرَ المؤمنين، وخصوصيتكم يا أهلَ هذا الدين.
إن غاياتِنا مرافقتُه صلى الله عليه وسلم، ونهاية الكرامة أن نحلَّ معه وندخلَ معه جنةَ ربنا، ومن لم يَعظُم شوقُه إليه في الدنيا خِيفَ أن لا يراه في القيامة، والويلُ لِمن لا يراه يوم القيامة، الويل لمن لا يراه يوم القيامة.. اللهم اجعل هذه العيون تراه في ذلك اليوم، اللهم اجعل هذه العيون تراه في ذلك اليوم، اللهم اجعل هذه العيون تراه في ذلك اليوم، يا حي يا قيوم يا الله، هيِّئ لذلك عينك، لا تنظرْ إلا بعينِ الاعتبارِ لهذه الأكوان، ولا تمتد عينك إلى ما حرَّم عليك الرحمن.. هيِّئها لِرُؤيةِ وجهِ حبيبه، هيِّئها لرؤيةِ وجوهِ النبيين.
فإن المعيَّةَ لهذا الحبيب هي التي سكَّنَت التهابَ أشواقِ الصحب الأكرمين، ففكَّر جماعاتٌ منهم هل نراه في الآخرة أم لا!؟ لأن درجتَنا في الجنة لو دخلناها دون درجتِه، ولم تكن الجنةُ تكفيهم ولا تُلهيهم عن حرارةِ الشوق إلى رؤيةِ ذاك الوجه ومجالسةِ تلك الذات، ومنهم من بذلك التفكير لم يستطع أن يأكل ولا أن يشرب ولا أن ينام، مكث على هذا الحال ثلاثة أيام، سيدنا ثوبان حتى قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( مالي أراك مصفرَّ اللون نحيلَ الجسد )، قال: إني قد أكون بين أهلي وولدي فأذكرُك فلا أصبر حتى آتي وأنظر إلى وجهك، وخِفتُ أن لا أراك في الآخرة، فحال هذا بين وطعامي وشرابي ومنامي يا رسول الله )، فنزلت الآية له ولأمثاله: ( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا، ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا )، تفضَّل علينا بهذا الفضل يا صاحب الفضل، ولم يذكر في الآية شيئاً من جزاء الطاعات من شؤون النعيم والجنات إلا المعية وحدها ( مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ )..
والحرفان هذان: ميم وعين، ( مع ) هو الذي برَّد غليلَ شوقِ الصحابة، ولقد أدركوا سرَّ المعيةِ هذه، حتى نزل القرآن يشرح لهم معنى المعية في الصلاة مع هذا الحبيب.. صلى بهم الظهر، فقال المشركون المقاتلون لهم: لو أنّا هجمنا عليهم وهم في الصلاة لقتلناهم، ثم قال بعضهم لبعض: ستأتي صلاةٌ هي أحبُّ إليهم مِن أولادِهم وأهلِهم وأرواحهم، يعنون صلاة العصر، ونزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بصلاة الخوف، فأمره أن يقسمهم فرقتين: فرقةُ تبقى للحراسة، وفرقة تصلي معه الركعة الأولى، ثم يكملون ركعتهم الثانية وحدهم وينصرفون، فتأتي الأولى فتصلِّي مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعته الثانية، قال تعالى: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ، فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ )، فقسَّم صلاته بين هؤلاء وهؤلاء ليحصل كلٌّ منهم نصيبه من الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر لنا سبحانه وتعالى في دعاء الخليل إبراهيم عليه السلام أنه يقول لربنا: ( ولا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ )، وقال في حق هذا النبي: ( يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )، بهذا النور ندرك من أسرار الهدي النبوي ما نستقيم به على ما يحب الله منا، فيكون عندنا من الصلاة لا مجرد صورتِها بل حقيقتها، ومن الزكاة لا مجرد صورتها بل حقيقتها، ومن الصوم كذلك، ومن القراءة كذلك، ومن الاجتماعات كذلك، ومن التعاون بيننا على الخير كذلك،، اللهم أعنَّا على ذكرِك وشكرِك وحُسنِ عبادتك.
وبهذا نعرف أوصافَ من هم في المعيَّة مع محمد صلى الله عليه وسلم، يقول تعالى: ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ )، اللهم اجعلنا معهم واحشرنا في زمرتهم.
تأمل معناها؛ ( أشداء على الكفار ) ترجمَ معناها سيدنا رسول الله في هديِه، ليس معناها غِش ولا خيانة ولا إرادة شر ولا خيانة عهد ولا شيء من ذلك.
أشداء على الكفار: أي لا يفسحون المجال لنَزعِ قِيَمِهم منهم، وتغيير أخلاقهم من الفاضلة إلى السيئة، بل يحافظون على دينهم فلا يفسحون المجال لزعزعةِ شيء من إيمانهم ولا من أخلاقهم في تبعيَّة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يقرُّون الاعتداء والظلم والتعدِّي لأحدٍ منهم، هذا معنى أشداء على الكفار، بيَّنه النبي المختار، مع تمنِّي هؤلاء الذين مع محمد للكفار أن يهديهم الله تبارك وتعالى ويريهم وجهَ الحق.
ونبيُّنا كان كلما أرسل أصحابه في سرية قال لهم: ( ادعوهم إلى الله، فوالله لَئن تأتوني بإسلامِهم أحبُّ إليَّ من أن تنتصروا عليهم إذ يقاتلونكم وتأتوا إليَّ بأموالهم ).
قال سيدنا أبوهريرة: جاء بعض الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن دوساً - يعني قبيلة أبي هريرة- آذَوا المسلمين وقاتلوهم فادعُ عليهم يا رسول الله، قال: فرفع النبي يديه فخَفت وقلتُ: ياهلاك قومي ويا ويلهم، قال فسمعتُه يقول: ( اللهم اهدِ دوساً وائتِ بهم مسلمين )، قال فما مرت ثلاثة أيام حتى وفد وافدُهم بالإسلام على رسول الله.
وكان في سيرته صلى الله عليه وسلم أنه ما طُلِب منه الدعاء على قوم إلا عدلَ من الدعاء عليهم إلى الدعاء لهم، هذا الذي هو مطبِّق لحقيقة معنى أشداء على الكفار، وهو الذي خاطب عُتاتَهم وطغاتَهم في يوم فتح مكة وقال: ( اذهبوا فأنتم الطلقاء )، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ومن سار في دربه وجعلنا الله تعالى وإياكم منهم.
وهو عليه الصلاة والسلام في هذه الترجمة كان وفيَّ العهود، فبهذه الترجمة لا يتسخفُّكم أحد من أهل الكفر فيغيِّر أخلاقَكم، لا يظن مسلمٌ أنه لو وجد كافراً يشتري منه خمراً أو مخدرات أنه يجوز له بيع ذلك أو التكسُّب به، فهو داخلٌ في اللعنة - والعياذ بالله - إن فعلَ ذلك.
فتأمل معنى أشداء على الكفار: لا سب، ولا لعن، ولا سوء أخلاق، ولكن محافظة على ما يحبُّ الخلاق، وإذ لم يزل الذين جالسوا أو جاوروا رسولَ الله ثم أصحابه مِن بعده يقرأون في مجاورَتِهم من البر والمعروف والإحسان جمالَ هذه الشريعة وكمالَها، بل كان كثيرٌ من الكفار إذا أراد أن ينتقل المسلم الذي جاورهم سنوات إلى محلٍّ آخر حزنوا عليه وعلى فِراقِه وأحبوا أن يدوم جوارُه معهم.
ثم قال تعالى: ( رحماء بينهم ) هذا وصفُ الأخوة والمحبة بين المؤمنين من أجل الله الذي آمنوا به، وبذلك حذر صلى الله عليه وسلم من الشحناء والبغضاء، وقال عن المتشاحنين: لا يُقبل عملُهما ولا يغفرُ لهما في الإثنين ولا الخميس. رزقنا الله الإخلاص لوجهه الكريم.
وقد وصفهم الله بهذه الأوصاف في التوراة المنزلة على سيدنا موسى، والإنجيل المنزل على سيدنا عيسى، وهم بهذا الوصف يغتاظوا مَن يُراد غيظُه من الكفار، والذي يراد غيظُه من الكفار مَن أصرَّ على نشرِ الكفر والسوء، وصدَّ عن سبيل الله تعالى، وأراد أن يصير المسلمون إلى ما عنده من الكفر.
وإذ تلَونا هذه الأوصاف فإننا نتوجه إلى الذي أوصفَ بها مَن هم مع محمدٍ أن يجعلنا من المتَّصفين بها، الله يجعلكم مع محمد، متَّصفين بأوصاف الذين معه، وبذلك تنوبون عن الأمة وعن نبي الأمة في إظهارِ جمالِ دينِ ربِّكم جل جلاله وشريعته وتكونون دعاةً إلى الله، وفقكم الله لذلك، وسار بكم في أشرف المسالك، وحماكُم من الزيغ والمهالك، وفرَّج كروب الأمة في المشارق والمغارب، ودفع عنهم المصائب والنوائب، وأعانكم على القيام بالأمر في كل الديار، وأشرق في صدوركم الأنوار، وأتممَ لكم نورَكم حتى تُحشروا في زمرة النبي المختار.
نِعم الإلهُ الذي تدعونه، نِعم الرب الذي ترجونه، نِعم الوهاب الذي تؤمِّلونه، نعم الحق الحي القيوم، الواحد الأحد، الفرد الصمد، المُطَّلع على ما في قلوبِكم، الناظر إلى سرائركم، وأنتم بين يديه
إنه الله أيها الأحباب، إنه الله أيها المؤمنون، نعم الإله إلهكم، نعم الرب ربكم، توجهوا إلى الله، اسألوا الله.. يسمعكم الله، ينظر إليكم الله، يُجِبكم الله.. يا الله يا الله،اللهم ارزقنا صدق التوبة، وجنِّبنا الذنوب والمعاصي، وثبِّتنا على ما تحب، واختِم لنا بالحسنى وأنت راضٍ عنا، اجعل آخرَ كلام كلِّ واحد منا من هذه الدنيا: لا إله إلا الله، وأدخِلنا قبورَنا في أنوار لا إله إلا الله، احشرنا جميعاً في زمرة كُمَّل أهلِ لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم في خيرٍ ولطفٍ وعافيةٍ برحمتك يا أرحم الراحمين.