الخطرُ الداهمُ لشعب الأدب في المغرب، وتحُول دارسيه إلى عالةٍ على المجتمع، بالصورة التي استقرأ بها وزيرُ التعليم العالِي والبحث العلمِي، لحسن الداودي، أعطاب التعلِيم في المملكة، لم تكن لتمضيَ دون إثارة سجال حول التشخيص، وقد ابتعدَ حسب كثيرين، عن جادَّة الرؤى السياسية لحل إشكال التكوين في صلته بالشغل، ليخرج في صيغة انطباعٍ يجافِي الموضوعيَّة.
تربيُّون ودارسُو أدبٍ تساءلُوا عمَّا إذَا كان منشأ أزمة التعلِيم في المغرب هُو التوجه الزائد نحو الشعب الأدبيَّة التي لا يطلبها سوق الشغل، أمْ أنَّ ثمة أزمة كبرى، لا يجدُ معها حتَّى خريجو كليات العلوم أنفسهم موطئ قدمٍ في السوق، بعد الحصول على الشهادات، في الوقت الذِي استطاعتْ دول كثيرة، أن ترتقي بمنظوماتها التربويَّة دونمَا إعادةٍ للنقاش إلى مفاضلة بين الأدب والعلوم، على اعتبار أنَّ لكلٍّ منهما أدوارهُ وحيزهُ في تكوِين الفرد وسوق الشغل.
الأستاذ المبرز في الفلسفة بالمركز الجهوِي لمهن التربية والتكوين في مكناس، محمد سوسي، يقولُ إنَّ كلام الداودِي صدر بكثيرٍ من التهويل، ولا يشذُّ عمَا بدر من وزير التعليم السابق، من مواقف إزاء الثانويات المرجعيَّة وثانويات التميز، مضافاً إلى القرار الذي لم يكن موفقًا لدى إغلاق الأقسام التحضيريَّة للآداب والعلوم الإنسانيَّة، بالرغم من تنصيص الميثاق الوطني للتربية والتكوين على إحداث تلك المؤسسات والمسالك ضمن منظور الجودة والامتياز.
وإن كان الأستاذ سوسي يقر بأنَّ الجامعات تعاني أزمة مركبة، إلَّا أنه لا يرى الحلَّ في تصريحاتٍ كتلك التي صدرت عن الداودي، لأنَّها تنمُّ عن وعِي ضعيف بأهمية الآداب والعلوم الإنسانيَّة في تنمية الثقافات الإنسانيَّة، ومعروفٌ، حسب سوسي، إطلاق الداودي تصريحات متسرعة للتغطية على احتمال الفشل في حل مشكلة الاكتظاظ بالكليات، التي يتوجبُ على الوزارة أن تعالجه.
المتحدثُ ذاته، يردفُ أنَّ تبيخ تبخيس دور كليات الآداب والمسالك الادبية يجسدُ موقفًا من الثقافة الأدبية والفنية والجمالية، إلى جانبِ مواجهة مشاكل الكليات التي لا تشكلُ سوى جزء من كل هو الجامعة.
ويقول الباحث إنَّ كثرة المتوجهين إلى الأدب صوب العلوم يجدُ تفسيره في توسع العرض التعليمي، الذي كان أفقًا للسياسات الحكوميَّة السابقة، على اعتبار أنَّ تعميم التعلِيم كان معلومًا إفضاؤهُ إلى توسع الناجحِين، الذين يريدهُم الداودِي من العلميين جميعًا.
وما لمْ يعه الداودِي، حسب سوسي، هو أنَّ الممارسة العلميَّة في المختبرات لا تنحصر في الجانب التقني، لأنَّ فرنسا مثلًا، لا يكون فيها الطالب مقبولا ليلج مدارس للمهندسين دون أن يكون متفوقًا في الآداب والفلسفة.
"وكانَ الطريق سيكون أقصد أمام الداودِي لو أنه قال بصراحة لأبناء المغاربة "لا نريدكم في التعليم الجامعي، وعليكم بالتكوين المهني، لأنَّ الطريقة التِي حرضَ بها تجانبُ الصواب"، يستطردُ الأستاذ.
من جانبه، يقول الشاعر وأستاذ الآداب العربية في جامعة مولاي إسماعيل في مكناس، إنه لمْ يحصلْ أن ازدرَى الأدبَ رجالُ علمٍ كبار من أمثال الفيزيائي، فاييرابند، صاحب كتاب "ضد المنهج"، الذي يعترفُ أن كثيرا من اكتشافاته العلمية كانت ثمرة لإلمامه بالآداب وغير الآداب، مما ليس موصولًا بالعلوم الدقيقة، كما لم يحتقر إنشتاين ولا كارل ماركس الأدب، في حين لم يتورع الداودي عن احتقار الأدب وأهل الأدب بشكل وضيع.
ويتساءلُ لقاح الذِي أصدر عدَّة أعمال أدبيَّة وخبر الجامعة المغربية لسنواتٍ طوال، "أترى الداودي ظنَّ نفسه عالمًا لا يشقُّ له غبار في العلم، بحيث يسمحُ له ذلك بتجاوز معارف أهل الأدب وأهل الحقوق؟ هل يعني ذلك أنهم تافهُون وشائهُون ولا قيمة لهم؟ أم أنَّ الأمر راجعٌ إلى عجز مخيف عند الدولة في حل ما هي منوطة به اضطرارًا ومسئولة بحله
ويوضحُ الأستاذ لقاح أنَّ طلبة المغرب، سواء كانُوا أدبيين أو علميين، فإنهم يرزحُون تحت مشاكل من صنيعة الدول لا من صنعهم، ومن غباء الدولة لا غبائهم، "لمْ يتبقَّ للداودي سوى أن يصدر أمره بإغلاق كليات الآداب لأنها تخرجُ عاطلين في نظره، فيما تعينُ اللغات على التواصل ومعارف أخرى لا يستهان بها.
ولأنَّ وزير التعليم العالي يحاولُ أنْ ينحِي باللائمة على الطلبة في أزمة لا ناقة لهم فيها ولا جمل، يقول لقاح "طلبتنا شعلة من الذكاء، وكل ما يقعُ لهم من إحباط، راجعٌ إلى سياساتٍ عبثيَّة للدولة في التعليم، لا إليهم".
جديرٌ بالذكر، أنَّ وزير التعليم العالي، لحسن الداودي، كان قد وجه سهامًا إلى تلاميذ الباكالوريا الحاصلين على شواهدهم في الشعب الأدبية، معتبرا ارتفاع نسبتهم ب 9 في المائة قياسًا بالسنة الماضية، أمرًا مهولًا، يحدقُ معه الخطر بالمغرب.
الداودي كانَ قدْ دعا، موازاةً مع ذلك، إلى مراجعة عدد الساعات المخصصة للعلوم والرياضيات في التأهيلي والثانوي، منبهًا إلى ما قال إنها معاناة للجامعات مع الشعب الأدبية، بعدما صار متعذرًا إيجادُ إيجاد تلاميذ في الرياضيات، وتحول الأدب إلى وجهة من لا سبيل له.